إذا فكّر القادة الإسرائيليون أنهم قادرون على الدخول إلى لبنان كما دخلوا إلى غزة يكونون واهمين وقصيري النظر، إن لم نقل فاقدي البصر والبصيرة. فالوضع هناك مختلف عمّا عليه هنا. وهذا الاختلاف تعرف “تل أبيب” معناه الحقيقي، لأنهم جرّبوا ذلك قبل ثماني عشرة سنة، وخبروا ما آلت إليه نتيجة دخولهم المحدود إلى بعض القرى الحدودية وصولًا إلى بنت جبيل. هذا ما يقوله “حزب الله” ومناصروه وأهالي الجنوب، الذين تتعرّض قراهم لأبشع الاعتداءات اليومية.
صحيح أن ما نتج عن هذا الدخول في صيف 2006 كان كارثيًا بالنسبة إلى ما خلفته الاعتداءات الإسرائيلية من خسائر بشرية ومادية على كل لبنان وليس فقط على المناطق التي شهدت اشتباكات مواجهة وحرب شوارع، ولكن الصحيح أيضًا أن ما تكبّده الإسرائيليون من خسائر مادية ومعنوية كانت أكبر بكثير نسبيًا من خسائر لبنان. والدليل أن “حزب الله” خرج من هذه المواجهة أقوى مما كان عليه قبل تموز 2006، وهو الآن، كما تقول ذلك التقارير الاستخباراتية وكما تقول “حارة حريك”، أقوى بعشرات المرّات مما كان عليه قبل ثماني عشر سنة، وهو بات يمتلك أسلحة متطورة لم تكن في حوزته في معركة اعتبرها يومها “حزب الله” بأنها كانت “معركة وجودية” على رغم قول أمينه العام السيد حسن نصرالله “لو كنت أعلم” بعدما انتهى القتال بموافقته على القرار 1701.
وعلى رغم الخسائر الكبيرة بعدد الشهداء الذين يسقطون له في حرب “المساندة والمشاغلة” لا يزال “حزب الله” يؤكد أنه جاهز لأي مواجهة غير تلك السائدة حاليًا بين جنوب لبنان وشمال إسرائيل. وهو لا يكتفي بالقول بأنه سيلقن الإسرائيليين هذه المرّة درسًا تاريخيًا لن ينسونه لسنين مديدة، بل يذهب إلى حدّ إبلاغ من يجب إبلاغه بأن اجتياح الجليل الأعلى سيكون بالنسبة إلى الخيارات المتاحة أمام القيادتين السياسية والعسكرية في “حارة حريك” أسهل بكثير من الخيارات الممكنة والمتاحة أمام “تل أبيب”، وهي التي تعاني ما تعانيه نتيجة أزماتها الداخلية أولًا، ونتيجة ما يُمارس عليها من ضغوطات خارجية، وقد يكون أهمها التظاهرات الطالبية التي تجتاح الجامعات الأميركية والفرنسية والكندية، مع ما لهذا الدعم الشعبي الغربي من تأثير على معنويات الجيش الإسرائيلي، الذي يعاني عناصره حالات نفسية مخيفة.
ثمة من يقول إنها إن لم تكبر لن تصغر. والمقصود بهذا القول أن “اشتدي أزمة تنفرجي”. فالتسويات الكبرى لم تأتِ على البارد، بل كانت نتيجة حروب وصراعات دموية. هكذا كانت الحال مع القرارات الدولية المتعلقة بالنزاعات المسلحة، ومن بينها بالطبع القرار 1701، الذي أنهى الحرب بين إسرائيل و”حزب الله”. وقد يكون ثمن هذه التسويات باهظًا جدًّا، أقّله بالنسبة إلى أهالي الشهداء، أو أولئك الذين أصيبوا إصابات غير قابلة للشفاء، أو أولئك الذين دُمرت منازلهم، وحُرقت أرزاقهم وأتلف زرعهم ونفقت مواشيهم، أو أولئك الذين هُجّروا من منازلهم وقراهم.
هذا المنطق السائد عاشه لبنان في تجربتين منفصلتين زمنيًا وظرفيًا. الأول طّبق في الطائف بعد حرب طويلة فأُسكت المدفع بعدما فعل فعله، وكان اتفاق لبناني – لبناني، برعاية عربية ودولية، سُمّي “اتفاق الطائف”، الذي لم يُطبّق بالكامل تمامًا كما لم يطبّق القرار 1701. أمّا الثاني فجاء من الدوحة بعد حوادث 8 أيار من العام 2008. وقد يكون هذا ما يُعمل له في المطابخ الدولية، التي تعتمد في وصفاتها على تهيئة ما يُطبخ على نار هادئة، وإن بدت لغة الميدان ساخنة إلى حد الاعتقاد أن ثمة بركانًا على وشك الانفجار. إلا أن هذا لا يعني أن ليس لإسرائيل غايات بات يعرفها القاصي والداني، وهي تتمثّل في تهجير فلسطينيي قطاع غزة إلى خارجه بعدما حولته إلى مكان لم يعد صالحًا للعيش فيه، مع ما لهذا التهجير من استغلال ما فيه من ثورة نفطية وغازية لا يُستهان بها.
فهل ما تشهده الجبهة الجنوبية من تصعيد ممنهج سيوصل إلى الانفجار الكبير أم إلى التسوية الكبرى؟