على رغم صوت الصواريخ المدوية، سواء تلك التي تسقط على أرض الجنوب أو تلك التي تنطلق منه، فإن لبنان بشقيّه المقاوم جنوبًا من جهة والذاهب في مشوار وزارة السياحة من جهة ثانية يقترب شيئًا فشيئًا إلى طيّ صفحة السنتين على الفراغ الرئاسي من دون أن تلوح في أفق الأزمة الرئاسية أي بادرة من شأنها أن توحي بانفراج قريب، لأن المعني فيها أكثر من غيره، ولو في شكل سلبي، مشغول بأمور أخرى يعتقد أنها أكثر أهمية في الوقت الراهن من أي شيء آخر.فـ “حزب الله” يرى أن التصدّي للمشروع الإسرائيلي في المنطقة، ومن ضمنها لبنان، من شأنه أن يحمي الجمهورية وسيادتها ومستقبلها، إذ ماذا ينفع اللبنانيين إذا كان لديهم رئيس لجمهورية معرّضة سيادتها للانتهاك من قِبل إسرائيل في كل لحظة وكلما دقّ الكوز بالجرّة.
هذا ما هو عليه موقف “حارة حريك” غير القابل لإدخال أي تعديل عليه ما دام الوضع في قطاع غزة على ما هو عليه من حال حرب لا هوادة فيها. أمّا إذا ساد الهدوء كل القطاع متزامنًا مع حل سياسي مستدام للقضية الفلسطينية بما يضمن للشعب الفلسطيني قيام دولتهم المستقلة وذات سيادة غير منقوصة فإن لكل حادث رئاسي حديث آخر، وأن ما يمكن أن يقبل به “الحزب” رئاسيًا بعد كل هذا قد يكون مغايرًا، شكلًا ومضمونًا، عمّا يطالب به الآن.
في المقابل فإن أقطاب المعارضة يختلفون مع “حزب الله” في رؤيته هذه، وهم في الأساس يعارضون فكرة ربط لبنان بأي محور أو جبهة أخرى دعمًا لقضية أي مظلوم، سواء أكان في غزة أو في أي مكان في العالم، كحجّة معلنة لغايات أخرى مضمرة وغير معلنة. هم يعتبرون رئاسة الجمهورية أولوية تتقدّم على ما عليها من قضايا أخرى مهما كانت مهمّة. ولو لم تكن بهذه الأهمية لما استعجلت إيران في انتخاباتها الرئاسية مثلًا، ولما كانت المعركة الرئاسية تأخذ هذا الطابع التنافسي بين مرشحي الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الأميركية. فالجمهورية من دون رئاسة كالوعاء الفارغ. ومن دون هذه الرئاسة تعمّ الفوضى ولا يستقيم عمل المؤسسات والإدارات، وتصبح الحياة السياسية مجرد وظيفة فارغة من المضامين الجوهرية، والتي تقوم في الأساس على فكرة تطوير الحياة المجتمعية للأفراد والمجموعات، الذين تتكوّن منهم هذه الجمهورية.
وفي هذا الإطار كان للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى موقف متقدّم فاعتبر أن انتخاب رئيس للجمهورية “مدخل للارتقاء بلبنان إلى مستوى طموحات أهله بالوحدة والتقدم والازدهار، والى مستوى رسالته الإنسانية وطنًا واحدًا لمجتمع متعدد ومتنوع”. وأكد “أن إنجاز الاستحقاق الرئاسي يتطلب حوارا وتشاورا بين كل القوى السياسية والكتل البرلمانية التي ينبغي عليها ممارسة دورها الوطني، للخروج من دوامة الدوران في فراغ التعطيل وتقاذف الاتهامات التعطيلية لانتخاب رئيس”.
أمّا مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان فدعا القوى السياسية والمعنيين بإنجاز الاستحقاق الرئاسي إلى “أن يتحاوروا ويتشاوروا ويقدموا تنازلات متبادلة لمصلحة وطنهم وللنهوض بالدولة ومؤسساتها، ليعيش المواطنون بأمن وأمان وسلام في رحاب دولة قوية عادلة، وإلّا فإنّ الدمار والخراب سيقضي على ما تبقى من هيكل الدولة”.
هذا الكلام المسؤول وغيره مما يُقال في أكثر من مناسبة إن دلّ على شيء فعلى مدى أهمية الانتخابات الرئاسية الديمقراطية وفق ما ينصّ عليه الدستور لا زيادة ولا نقصانًا، على أن يتقبّل الجميع نتيجة هذه العملية الديمقراطية الدستورية، مع تفضيل الجميع الذهاب إلى توافق مسبق على سلة متكاملة تشمل رئاستي الجمهورية والحكومة العتيدة وشكلها وتوازناتها وخطّة عملها للمرحلة المقبلة المليئة بالاستحقاقات، التي تتطلب مقاربة مختلفة للقضايا الملحة المتعلقة حصرًا بحياة الناس.
وعليه، فإن ما يُطرح على بساط البحث من محاولات لإخراج الاستحقاق الرئاسي من عنق الزجاجة يبقى مرهونًا بما ستؤول إليه المساعي الخارجية المتمثلة بـ “اللجنة الخماسية”، التي ستحاول من جديد وضع تصور لخارطة طريق رئاسية جديدة.