نظمت وزارة العدل بالتعاون مع مؤسسة فرانس اكسبرتيز المؤتمر الوطني حول مكافحة الإتجار بالأشخاص في لبنان.
واستهل وزير العدل عادل نصار كلمته، بقول للكاتب الألماني برتولت بريخت: «إن مستقبل الإنسانية لا معنى له إلا حين يُرى من الأسفل».
وتابع نصار: “فمن هناك، في الأماكن التي تُخفى عمداً عن أعين الواعظين والمدّعين بالأخلاق، تُهدَّد الإنسانية في جوهرها. وعندما يستيقظ العالم متأخراً، يكون أساسه قد نُخر بصمت من انتهاكات حقوق الإنسان. علينا جميعاً واجب اليقظة، هذه اليقظة التي من دونها تتسلّل، بخبث وهدوء، مرارة المهمَّشين الذين تُدير الدول ظهرها لهم. في السجون، وفي عنابر السفن، وفي الصناديق المخفية في الشاحنات، وعبر الوعود الكاذبة والمسارات السرّية الملطّخة بالدماء على الحدود، يُساق البشر نحو عملية نزعٍ لإنسانيتهم. يُعاملون بما يخالف أبسط حقوقهم، ويُستغلون من قبل طامعين، ويُعرَّضون للإهانة والإذلال”.
وأضاف: “لا يُقاس تقدّم البشرية فقط بارتفاع معدّل الأعمار، أو التطور العلمي، أو تحسّن الظروف المعيشية، بل يُقاس أيضاً، وأكثر من ذلك، بقدرتنا على إيجاد حلول فعّالة للأخطار التي تهدّد الأضعف بيننا. فالإنسانية تبدأ فعلاً عندما نمنع إنساناً من ممارسة اللإنسانية ضدّ آخر”.
وشدد على أن “الاتجار بالأشخاص جريمة بالغة الخطورة، لأنها تشكّل اعتداءً مباشراً على الحرية والكرامة والسلامة البشرية، وغالباً ما تكون ضحاياها من أولئك الذين تُخنق أصواتهم بسبب لامبالاة الأغلبية التي تفضّل النظر إلى الأماكن المضيئة بدل تلك الغارقة في عتمة تُتيح وقوع الجريمة. إنّهم غالباً من الفئات الضعيفة: نساء، أطفال، عمّال مهاجرون، تُوقع بهم الخديعة، أو القسر، أو العنف. وغالباً ما تبقى معاناتهم صامتة، ورواياتهم غير مسموعة، وكرامتهم مهدورة. وهذه الجريمة فظيعة لأنها مستمرة، ولأن الألم الذي تخلّفه واضح وجليّ. فالجناة يشهدون على الجحيم الذي يصنعونه لضحاياهم، وسلسلة الإجرام طويلة. لكن هناك أيضاً لؤم الصمت من أولئك الذين يجب أن يثوروا غضباً لكنهم يختارون اللامبالاة كي لا يشعروا بأنهم معنيون. هذه الشراكة الصامتة تُنهك الضمير الجمعي”.
وأردف: “لن نكرر بما فيه الكفاية كلمات لاكوردير: «بين القوي والضعيف، تُظلم الحرية ويُنصف القانون». لقد خطا لبنان خطوة مهمة في مواجهة هذا الوباء عبر إقرار القانون رقم 164 لعام 2011، المتوافق مع بروتوكول باليرمو والمعايير الدولية. ومع ذلك، تُظهر الخبرة الميدانية والتحقيقات والشهادات بوضوح وجود ثغرات كبيرة، وفجوة غير مقبولة بين نص القانون وتطبيقه الفعلي. ما يؤكد أن القانون وحده لا يكفي: فالتطبيق الصلب هو الدليل الحقيقي على إرادة الدولة، وعلى التزام المجتمع بأسره. فلا يمكن لمجتمع أن ينعم بالسلام بينما ينام على أنقاض حرية وكرامة الآخرين”.
كما لفت إلى أن “إطلاق إجراءات التشغيل الموحدة (SOP) الخاصة بتحديد ضحايا الاتجار وحمايتهم يمثّل خطوة ضرورية نحو تطبيق أكثر فعالية للقانون وتحسين آليات الرعاية. ويأتي هذا المؤتمر اليوم في إطار تعزيز الوعي لدى الجهات المعنية بأهمية تطبيق أحكام القانون المتعلقة بالاتجار بالأشخاص بحزم وبلا تهاون. إن تعزيز التطبيق الصارم للقانون 164 وتقديم استجابات أكثر فاعلية لهذا الوباء الإجرامي يشكلان ضرورة أساسية. ومن المتوقع أن تُسهم الجلسات الحوارية في إطار هذا المؤتمر مساهمة نوعية في هذا الاتجاه. فالنتائج التي ستصدر عنها يجب أن تُعزز التنسيق، وتحسّن آليات التعرف إلى الضحايا، وتضمن حماية متماسكة تضع الإنسان في صلب الاهتمام”.
وقال: “يجب أن ترافق تطبيق القانون تعبئة عامة ترتكز على أربعة أعمدة أساسية:
عدالة تُلاحق المجرمين بحزم وتصميم؛
حماية تضع الناجين في قلب العمل العام؛
تنسيق يُوحّد المؤسسات بدل تشتيتها؛
عمل وطني يرفض الإفلات من العقاب ويصون كرامة الجميع.
وفي هذا السياق، أودّ أن أحيي الدور الجوهري للقضاة، ولعناصر قوى الأمن الداخلي، وللأجهزة الاجتماعية، إضافة إلى منظمات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية التي تُشكّل خط الدفاع الأول ضد الاتجار بالبشر.
إن هذا المؤتمر محطة أساسية، فهو يتيح لنا:
* تبادل المعطيات الواردة من الميدان؛
* تقييم الأثر الحقيقي للقانون؛
* تحديد الثغرات القائمة؛
* والأهم: صياغة استجابات أكثر فعالية وانسجاماً وإنسانية.
وعليه تؤكد اليوم وزارة العدل مجدداً التزامها دعم تعزيز الإطار القانوني، وتحسين آليات الحماية، وترسيخ منظومة قائمة على حقوق الإنسان”.
وتوجه بالشكر “إلى فرانس اكسبرتيز وWomen Empowerment Hub، وجميع شركائنا من مؤسسات قضائية ورسمية وأهلية ودولية. إن التزامكم المستمر، وتحليلاتكم، وجهودكم على الأرض، ضرورية لبناء استجابة وطنية قوية”.
وختم نصار: “سيداتي وسادتي، إن مستقبل هذه المعركة يعتمد على قدرتنا على العمل المشترك، وعلى الإصغاء، والتنسيق، والفعل. فمكافحة الاتجار ليست واجباً قانونياً فحسب، بل هي واجب أخلاقي. تتجسد في مواجهة الجريمة كما في رعاية الضحايا. هؤلاء الضحايا يستحقون الدعم والاعتراف. ويجب أن نستبدل العزلة القاسية التي فُرضت عليهم بيدٍ ممدودة، يد التضامن الإنساني. لنتقدم بإنسانية وتصميم، وبإيمان راسخ أن كل حياة تُحمى، وكل ضحية تُنصف، وكل متاجر بالبشر يُلاحق، هو انتصار للعدالة وللكرامة الإنسانية في لبنان. أشكركم”.


